فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالًا حسنًا؛ لأنها تتدرّج الرتبُ من الذي يُدْعَى ويُوَعَظ، إلى الذي يجَادل، إلى الذي يجازَى على فعله.
ولكن ما روى الجمهور أثبت.
روى الدّارَقُطْنِيّ عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أُحُد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرًا ساءه، رأى حمزة قد شُقّ بطنه، واصطلم أنفه، وجُدِعت أذناه، فقال: «لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلنّ مكانه بسبعين رجلًا» ثم دعا ببردة وغطّى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الإذْخر، ثم قدّمه فكبر عليه عشرًا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلّى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة إلىقوله واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} فصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُمَثِّل بأحد خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبي هريرة، وحديثُ ابن عباس أكمل.
وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكّن إلا مثل ظلامته لا يتعدّاه إلى غيره.
وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد.
الثانية: واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالمُ المظلومَ على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه؛ فقالت فرقة: له ذلك؛ منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعِيّ وسفيان ومجاهد؛ واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها.
وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك؛ واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» رواه الدارقطني وقد تقدّم هذا في البقرة مستوفًى.
ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر؛ فاستشار ذلك الرجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الأمر فقال له: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» وعلى هذا يتقوّى قول مالك في أمر المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك، وهي رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه؛ فإن تمكن من الانتصاف من مالٍ لم يأتمنه عليه فيُشبه أن ذلك جائز وكأن الله حكم له؛ كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم.
وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها {واصبِر وما صبرك إِلا بِالله}.
الثالثة: في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص؛ فمن قَتل بحديدة قُتل بها.
ومن قَتل بحجر قُتل به، ولا يتعدّى قدر الواجب، وقد تقدّم هذا المعنى في البقرة مستوفى، والحمد لله.
الرابعة: سمّى الله تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب دباجة القول، وهذا بعكس قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54]، وقوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15]. فإن الثاني هنا هو المجاز والأوّل هو الحقيقة؛ قاله ابن عطية.
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)}.
فيه مسألة واحدة: قال ابن زيد: هي منسوخة بالقتال.
وجمهور الناس على أنها مُحْكَمَة.
أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا من المُثْلَة.
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله.
{وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} ضَيْق جمع ضيقة؛ قال الشاعر:
كَشَفَ الضَّيقةَ عنا وفَسَحْ

وقراءة الجمهور بفتح الضاد.
وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، ورويت عن نافع، وهو غلط ممن رواه.
قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر.
قال الأخفش: الضَّيق والضِّيق مصدر ضاق يضيق.
والمعنى: لا يضيق صدرك من كفرهم.
وقال الفراء: الضَّيق ما ضاق عنه صدرك، والضِّيق ما يكون في الذي يَتَّسع ويضيق؛ مثلُ الدار والثوب.
وقال ابن السِّكّيت: هما سواء؛ يقال: في صدره ضَيق وضِيق.
القُتَبِيّ: ضَيْق مخفف ضيّق؛ أي لا تكن في أمر ضَيّق فخفف؛ مثل هَيّن وهَيْن.
وقال ابن عرفة: يقال ضاق الرجل إذا بخل، وأضاق إذا افتقر.
وقوله: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} أي الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد.
وتقدّم معنى الإحسان.
وقيل لِهَرِم بن حِبّان عند موته: أوصنا؛ فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} إلى آخرها. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} يعني ادع إلى دين ربك يا محمد، وهو دين الإسلام بالحكمة يعني بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة، يعني وادعهم إلى الله بالترغيب والترهيب وهو أنه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم {وجادلهم بالتي هي أحسن} يعني بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة في الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف.
وقيل: إن الناس اختلفوا وجعلوا ثلاثة أقسام: القسم الأول هم العلماء والكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثاقبة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها، فهؤلاء المشار إليهم بقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} يعني ادعهم بالدلائل القطيعة اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها حتى ينتفعوا وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم.
القسم الثاني: هم أصحاب الفطرة السليمة، والخلقة الأصيلة وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حدّ الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوساط الأقسام، وهم المشار إليهم بقوله: والموعظة الحسنة أي ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة.
القسم الثالث: هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة، وهؤلاء المشار إليهم بقوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه.
وقيل: المراد بالحكمة القرآن يعني ادعهم بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقيل: المراد بالحكمة النبوة أي ادعهم بالنبوة والرسالة والمراد بالموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وجادلهم بالتي هي أحسن أي أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق فعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير: هذا منسوخ بآية السيف {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} يعني إنما عليك يا محمد تبليغ ما أرسلت به إليهم ودعاؤهم بهذه الطرق الثلاثة وهو أعلم بالفريقين الضال والمهتدي فيجازي كل عامل بعمله.
قوله سبحانه وتعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} نزلت هذه الآية بالمدينة في سبب شهداء أحد وذلك أن المسليمن لما رأوا ما فعل المشركون بقتلى المسلمين يوم أحد من تبقير البطون، والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن أبي عامر الراهب، وذلك أن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهرنا الله عليهم، لنربين على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد.
ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وآذانه وقطعوا مذاكيره، وبقروا بطنه وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تنزل في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبدًا حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئًا من جسده النار» فلما نظر رسول الله إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحمة الله عليك فإنك ما علمنا ما كنت إلا فعّالًا للخيرات، وصولًا للرحم ولو كان حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» فأنزل الله {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نصبر وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه».
عن أبي بن كعب قالك لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلًا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقال الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنربين عليهم.
قال: فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فقال رجل: لا قريش بعد اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفروا عن القوم إلا أربعة».
أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن غريب وأما تفسير الآية فقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق.
يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض، بأن الترك أولى فإن كان لابد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} يعني ولئن عفوتم، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو، والصبر خيرًا من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين.
فصل:
اختلفت العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا، على قولين: أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، ونسخ هذا بقوله: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية، القول الثاني: أنها أحكمت، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري.
قال بعضهم: الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم.
قوله: {واصبر وما صبرك إلا بالله}.
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته {ولا تحزن عليهم} يعني على الكافرين، وإعراضهم عنك وقيل: معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ورضوانه {ولا تك في ضيق مما يمكرون} يعني: ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.
قرئ {في ضيق} بفتح الضاد وكسرها، فقيل لغتان.
وقال أبو عمر: والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكين وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وقال القتيبي: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى ولا تك في أمر ضيق من مكرهم.
قال الإمام فخر الدين الرازي: وهذا الكلام من المقلوب، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلًا في الصفة فكان المعنى لا يكن الضيق حاصلًا فيك إلا أن الفائدة في قوله: {ولا تك في ضيق} هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى {إن الله مع الذين اتقوا} أي اتقو المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي {والذين هم محسنون} يعني بالعفو عن الجاني، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة، فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله.
قال بعض المشايخ: كمال الطريق صدق مع الحق، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت: أوص.
فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف، وهو أن يسمع المدعو حكمة، وهو الكلام الصواب القريب الواقع من النفس أجمل موقع.
وعن ابن عباس: أنّ الحكمة القرآن، وعنه: الفقه.
وقيل: النبوّة.
وقيل: ما يمنع من الفساد من آيات ربك المرغبة والمرهبة.
والموعظة الحسنة مواعظ القرآن عن ابن عباس، وعنه أيضًا: الأدب الجميل الذي يعرفونه.
وقال ابن جرير: هي العبر المعدودة في هذه السورة.
وقال ابن عيسى: الحكمة المعروفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن تختلط الرغبة بالرهبة، والإنذار بالبشارة.
وقال الزمخشري: إلى سبيل ربك الإسلام، بالحكمة بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، والموعظة الحسنة وهي التي لا تخفى عليهم إنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها، ويجوز أن يريد القرآن أي: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف.
وقال ابن عطية: الموعظة الحسنة التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه، وتجعله بصورة من قبل الفضائل ونحو هذا.
وقالت فرقة: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة: هي محكمة.
وإن عاقبتم أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتاب السير.
وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها اتصالًا حسنًا، لأنها تتدرج الذنب من الذي يدعي، وتوعظ إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت انتهى.
وذهبت فرقة منهم ابن سيرين ومجاهد: إلى أنها نزلت فيمن أصيب بظلامة أنْ لا ينال من ظالمه إذا تمكن الأمثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها، وسمى المجازاة على الذنب معاقبة لأجل المقابلة، والمعنى: قابلوا من صنع بكم صنيع سوء بمثله، وهو عكس: {ومكروا ومكر الله} المجاز في الثاني وفي: وإنْ عاقبتم في الأول.
وقرأ ابن سيرين: {وإنْ عقبتم فعقبوا} بتشديد القافين أي: وإنْ قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم.
والظاهر عود الضمير إلى المصدر الدال عليه الفعل مبتدأ بالإضافة إليهم أي: لصبركم وللصابرين أي: لكم أيها المخاطبون، فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بصبرهم على الشدائد، وبصبرهم على المعاقبة.
وقيل: يعود إلى جنس الصبر، ويراد بالصابرين جنسهم، فكأنه قيل: والصبر خير للصابرين، فيندرج صبر المخاطبين في الصبر، ويندرجون هم في الصابرين.
ونحوه: {فمن عفا وأصلح} {وأن تعفوا أقرب للتقوى} ولما خير المخاطبون في المعاقبة والصبر عنها عزم على الرسول صلى الله عليه وسلم في الذي هو خير وهو الصبر، فأمر هو وحده بالصبر.
ومعنى بالله: بتوفيقه وتيسيره وإرادته.
والضمير في عليهم يعود على الكفار، وكذلك في يمكرون كما قال: {فلا تأس على القوم الكافرين} وقيل: يعود على القتلى الممثل بهم حمزة، ومن مثل به يوم أحد.
وقرأ الجمهور: {في ضيق} بفتح الضاد.
وقرأ ابن كثير: بكسرها، ورويت عن نافع، ولا يصح عنه، وهما مصدران كالقيل والقول عند بعض اللغويين.
وقال أبو عبيدة: بفتح الضاد مخفف من ضيق أي: ولا تك في أمر ضيق كلين في لين.
وقال أبو علي: الصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر، لأنه إنْ كان مخففًا من ضيق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف، وليس هذا موضع ذلك، والصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة كما تقول: رأيت ضاحكًا، فإنما تخصص الإنسان.
ولو قلت: رأيت باردًا لم يحسن، وببارد مثل سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف.
وقال ابن عباس، وابن زيد: إنّ ما في هذه الآيات من الأمر بالصبر منسوخ، ومعنى المعية هنا بالنصرة والتأييد والإعانة. اهـ.